![]() |
لماذا يُخيفنا الجمال أحياناً؟ |
الجمال، هذا الطيف المراوغ الذي يحوم حول أعيننا وقلوبنا، يُفترض به أن يكون مرادفًا للبهاء والراحة، ومع ذلك، لا يخلو من وجوه تُثير فينا رهبةً خفية، وكأننا أمام مرآةٍ تكشف أكثر مما نحتمل. هذا المقال ليس تمجيدًا للجمال، بل هو غوصٌ متأنٍّ في سؤالٍ عميق:
لماذا يُخيفنا الجمال؟
الرهبة من الجمال: انعكاس أم افتضاح؟
حين نقف أمام وجهٍ مشرق، أو طبيعةٍ تتقاطر منها الروعة، كثيرًا ما ينتابنا شعور غريب، مزيجٌ من الإعجاب والقلق، من الانبهار والانسحاب. الجمال لا يُعطينا فرصة الاكتفاء بالمشاهدة، بل يدعونا – بل يفرض علينا أحيانًا – مراجعة أنفسنا. وكأن العين حين تلمح الجمال، ترسل إشاراتٍ خفية إلى القلب تقول له: "انظر، هذا ما لست عليه". وهنا تنشأ الرهبة.
الجمال يُفصح عن نقصٍ ما بداخلنا، عن خيباتٍ خفية، عن مقارناتٍ لم نرد خوضها، لكنها فُرضت علينا بمجرد لحظة تأملٍ بريئة.
القوالب المتسلطة: حين يتحوّل الجمال إلى معيار
في مجتمعاتٍ مشبعة بالصور المنمقة والمقاييس المصطنعة، صار الجمال يُستخدم سيفًا ذا حدّين. لا يعود جمال الوجه أو الجسد أو الصوت، مجرد نعمةٍ يتذوقها العقل والروح، بل يصبح معيارًا يُقاس عليه القبول الاجتماعي، النجاح، وحتى الاستحقاق الوجودي.
هذا الاستخدام السلطوي للجمال يحول التجربة من ذائقة إلى تهديد. من زهرة إلى اختبار. من بهاءٍ إلى فخّ. ولأن النفس البشرية تتأرجح بطبعها بين الرغبة في التميّز والخوف من النبذ، فإن الجمال حين يُقدَّم كشرطٍ للقبول، يُصبح مرعبًا. إنه يُثير فينا ذلك السؤال الكامن: "هل أنا كافٍ؟"
الوعي الجمعي: حين يصنع اللاوعي قفصًا مذهّبًا
نحيا داخل سردياتٍ شكلها الإعلام، وغذّاها التاريخ، وكرّسها المجتمع. هذه السرديات تحمل مفاهيم الجمال وتضعها في قوالب ضيقة: لون بشرة، مقاس خصر، نبرة صوت، حتى طريقة الضحك. وحين ننظر للجمال من هذا المنظار، فإننا لا نراه كما هو، بل كما قيل لنا أن نراه.
الوعي الجمعي، هذا الوحش الناعم، يجعلنا نرتاب من الجمال لأننا لا نثق بذواتنا أمامه. لأنه يقول لنا بصوتٍ غير مسموع: "الجمال ليس لك، بل لمن يطابق القالب". وفي لحظةٍ ما، تصبح مواجهة الجمال أشبه بالوقوف أمام سُلّم لا نهاية له.
الجمال كمرآة للندوب
في بعض الأحيان، لا يُخيفنا الجمال في ذاته، بل بما يوقظه فينا. الجمال يعرّي، يسلّط الضوء على ندوبٍ حاولنا نسيانها. امرأة ترى أخرى بجمالٍ آسر، فتتذكر نظرات الاحتقار في طفولتها. رجل يرى شابًا وسيمًا فتُهاجمه مشاعر النقص الدفينة. لا ذنب للجمال هنا، لكنه كما الضوء، يكشف كل ما تُخفيه الظلال.
الجمال، إذن، لا يُخيفنا لأنه خطر، بل لأنه صادق. لأنه لا يُهادن. لأنه يقول لنا الحقيقة من دون كلمات.
هوس الكمال: أصل الفزع
في ثقافةٍ تقدّس الكمال، يصبح الجمال عبئًا. لا يعود تجربة شعورية، بل هدفًا ينبغي بلوغه بأي ثمن. وهنا يبدأ الخوف: الخوف من عدم التناسق، من التقدّم في العمر، من التجاعيد، من التمدد، من التغيّر الطبيعي.
هوس الكمال يجعل الجمال عبئًا نفسيًا. بل وأكثر، يجعلنا نرتاب من الجميلات والجميلين، لا لأنهم مذنبون، بل لأن حضورهم يذكّرنا بمعركة نخوضها كل صباح أمام المرآة.
حين يتحوّل الجمال إلى عزلة
الأشخاص شديدو الجمال كثيرًا ما يُنظر إليهم كمن يتمتعون بحظوةٍ لا تُضاهى، لكن الحقيقة أن الجمال قد يكون عزلة. لأن الناس لا يرونهم، بل يرون مظهرهم. لأن الأحكام تسبق التفاعل. لأن الظنّ يعلو فوق المعنى.
ولهذا، يخاف البعض من الجمال لأنه يبدو سطحيًا، مزيفًا، أو لأننا خُذلنا ممن كنا نظن أن جمالهم مرآةٌ لنقاء دواخلهم.
التواضع المغشوش: عندما يصبح رفض الجمال فضيلة مزيفة
في بعض البيئات الثقافية، يُقدَّم الجمال كعدو للتقوى أو الاتزان. يُقال لك: "ابتعد عن الفتنة"، "لا تُعجب بالشكل"، "الجمال غُرور". وهنا، تنمو فينا مشاعر الخوف من الجمال ليس لأنه سيئ، بل لأننا تعلمنا أن نربطه بالخطر الأخلاقي.
هذا التوجيه المشوّه يجعلنا نتعامل مع الجمال كشيء يجب إنكاره أو التقليل من قيمته، لا لأننا لا نُقدّره، بل لأننا نخاف من أن يُقال عنا إننا سطحيون.
الجمال كتجربة وجدانية لا كقيمة مطلقة
ربما ما يُخيفنا حقًا في الجمال، هو إدراكنا أنه تجربة ذاتية، متغيرة، غير قابلة للإمساك. ما هو جميل لك قد لا يُحرّك شيئًا فيّ، وما يأسرني قد يمر عليك مرور الكرام.
هذه النسبية تُقلق العقل الذي يبحث دائمًا عن الثابت. لأنها تُخبرنا أن الجمال لا يُقاس، بل يُعاش. وأنه لا يُمتلك، بل يُلامس.
كيف نتصالح مع الجمال دون أن نخافه؟
التصالح مع الجمال يبدأ حين نكفّ عن اختزاله في القشرة، وحين ندرك أن الجمال الحقيقي ليس مُهيمَنًا، بل ملهِمًا. أن الجمال لا ينبغي أن يُشعرنا بالدونية، بل أن يوقظ فينا التقدير.
حين نعلّم أطفالنا أن الجمال ليس امتيازًا بل تنوعًا. حين نحتفي بالتجاعيد كتاريخ لا كعيب. حين نرى في الاختلاف ثراءً لا تهديدًا. حينها فقط، يتحرر الجمال من رعبه.
في الختام: الجمال، ذلك اللغز المُدهش
الجمال يُخيفنا لأنه يُلامس أعمق ما فينا، لأنه يُجبرنا على رؤية أنفسنا، على مواجهة مقاييسنا، على الاعتراف بجراحنا. لكنه في الوقت نفسه، يُنير دروبًا ما كنا لنراها لولاه.
فلنحترم الجمال،لا كشرط، بل كقصيدة. لا كحكم، بل كتجربة.
الجمال ليس عدوًا... لكنه كالنور، لا يكشف إلا ما نحن مستعدون لرؤيته.