![]() |
حين يغدو الجمال سلعةً في مزاد الأهواء |
في متاهات الحياة الحديثة، حيث تتقاطع الواجهة الإعلانية مع التطلعات الاجتماعية، تبرز ظاهرة مقلقة تهدد الجوهر الإنساني للأنثى: تحوّل جسد المرأة إلى منتج يُروّج له ويُسعّر كأي سلعة في سوق استهلاكي لا يرحم. في زاوية من زوايا المشهد الإعلامي المعاصر، يتراءى لنا الجمال الأنثوي لا كحالة من التفرّد أو انعكاس لروح حيّة، بل كغلاف يعلوه باركود ويُسوّق على أنه معيار النجاح أو التحقّق الذاتي.
في العمق، لم تعد ملامح المرأة تُرى على أنها تنويعات إبداعية للخلق، بل صارت تُختزل في قياسات ونِسَب، تتكرر بملل على شاشات الهواتف واللافتات. تغدو العيون مجهرًا لاكتشاف "العيب"، والفم وسيلة لتمرير الإعلانات، والخصر محورًا لحسابات الربح والخسارة.
الإعلانات: مسرح استعراض الأنوثة المعلبة
منذ أن تسلّلت لغة التسويق إلى تفاصيل الحياة، بدأت الشركات تُعيد تشكيل ملامح الأنوثة وفق ما يُرضي السوق لا الذات.
تُستغل الصور النسائية لترويج معجون الأسنان، والساعات، وحتى قطع السيارات. لا يهم السياق، فالجسد الأنثوي أضحى ورقة رابحة تُستخدم بلا مواربة.
في هذا السياق، لا تُقدّم المرأة على أنها إنسان ذو فكر وروح، بل كديكور يُجمّل المنتج.
تتكرس فكرة أن "الجميلة تُقنع"، وأن الأنوثة المثالية ترتبط بمظهر مصقول يتماشى مع تريندات الموضة والفلتر البصري.
وسائل التواصل: المرايا الكاذبة
المنصات الاجتماعية، التي يفترض بها أن تُقرّب المسافات وتُحرّر التعبير، تحوّلت إلى ساحات استعراض لا تهدأ، يُصاغ فيها الجسد الأنثوي وفق مرشّحات وعمليات تعديل رقمي لا تُبقي من الملامح الحقيقية إلا القليل.
باتت الفتيات يلهثن خلف معايير جمال مرسومة على خوارزميات المنصة، لا على طبيعة البشر.
الجسد، بدل أن يكون مِلكًا للمرأة، بات ملكًا للمتابعين، تُمنح عليه اللايكات، وتُحسم بسببه فرص العمل والشهرة. يصبح حضورها على الإنترنت مرهونًا بقدرتها على ملاءمة جسدها مع النماذج الرقمية المصمّمة لإرضاء نظر المستهلك لا عقل الإنسان.
السينما والدراما: إعادة إنتاج الصور النمطية
الدراما العربية، بما تحمله من تأثير مجتمعي، غالبًا ما تقع في فخ التكرار: المرأة الجميلة هي الناعمة، الضعيفة، المنتظرة منقذها.
الجمال لا يُقدَّم فيها كميزة فردية أو بعد وجودي، بل كوسيلة للاقتراب من الرجل، أو الوصول إلى وظيفة، أو حتى ضمان نهاية سعيدة.
يتكرّر المشهد حتى تملّ العين: البطلة ذات الجسد الممشوق والوجه المتناسق، تتفوّق لا بذكائها أو مبادئها، بل بقدرتها على إغواء العالم من حولها. يتم بذلك تأطير الجمال ضمن إطار نفعوي، يُستخدم كجسر للعبور وليس كحقّ طبيعي للفرد.
المدارس والمناهج: الغياب العميق للنقاش
وسط هذا الزخم، تلتزم المؤسسات التربوية الصمت. تغيب مناهج النقد الجمالي، ولا تُناقش الصورة النمطية للجسد الأنثوي بشكل جاد.
ينمو الأطفال على مفاهيم مغلوطة حول الجمال، تُلقَّن لهم ضمنيًا من خلال الرسومات، والأفلام الكرتونية، وحتى ألعاب الفيديو.
المراهقات لا يجدن منصّة حوارية تُناقش مفهوم الجمال بوصفه تجربة شخصية، لا معيارًا خارجيًا. فيغدو الانبهار بالمؤثرات والفلترات بديلاً عن الحوار الداخلي، ويُستبدل القبول بالذات بالمقارنة القاتلة.
النتائج النفسية: ندوب غير مرئية
كل هذا التشويه في صورة الجسد يترك خلفه ندوبًا لا تُرى، لكنها تنخر في النفس ببطء. الاكتئاب، اضطرابات الأكل، القلق الاجتماعي، كلها نتائج مقلقة لهذا التسليع.
المرأة التي تُقنع نفسها أن جسدها ليس "مناسبًا"، تُحرم من التقدير الذاتي، وتعيش أسيرة معايير لا تشبهها.
تصير المرآة سيفًا لا تعكس الجمال، بل تقطّعه إلى أجزاء من النقص والدونية. كلّ تفصيلة من الجسد تصبح مشروع تصحيح، وكلّ لحظة أمام الكاميرا لحظة حكم.
نحو استعادة الإنسان من بين أنياب السوق
المطلوب اليوم ليس إلغاء الجمال، بل تحريره من التقييد. لا يُمكن للفرد أن يسترد سيادته على جسده إلا عندما يُعاد تعريف الجمال بوصفه تجربة داخلية، تفيض من سلام النفس واتساق الذات.
آن الأوان للحديث عن الجسد بوصفه كيانًا نابضًا، لا واجهة للعرض.
فلنُعلّم الجيل القادم أن الجمال لا يُقاس بشريط قياس، ولا يُختزل في عدد المتابعين، بل يُولد في المسافة ما بين تقبّل الذات واحترامها.
الجمال الحقيقي لا يُسوّق، لأنه ببساطة لا يُشترى.
كلمة أخيرة: جمالكِ ليس منتجًا
توقفي عن رؤية نفسكِ كما تريدكِ الإعلانات. لا تسمحي للمرآة أن تكون قاضٍ ولا للمجتمع أن يكون سجانًا.
جسدكِ ليس متجرًا، ولا لوحةً للإيجار. هو مساحتكِ الخاصة، نَبضكِ، وصوتكِ الصامت الذي لا يحتاج لتصفيق، بل لتقدير صادق منكِ لكِ.
في زمن التصنيع الزائف، ثوري على القالب. وبدل أن تكوني نسخة، كوني الأصل الذي لا يتكرّر.