هل الجمال مسألة ذوق أم معايير؟

إصنعي جمالك بنفسك
0



نساء جميلات من أعراق وألوان بشرة مختلفة يرمزن إلى تنوع معايير الجمال حول العالم
 هل الجمال مسألة ذوق أم معايير؟



في زمنٍ تتكاثر فيه الصور المصقولة وتتكاثر فيه مقاييس "المثالية" التي تمليها الشاشات، يُطرح سؤالٌ جدلي لم يخفت صداه منذ قرون: هل الجمال فعلاً أمر نسبي يخضع لذوق كل فرد؟ أم أنه محكوم بمعايير تفرضها الثقافة، والسلطة، والسوق؟

سنتوغل في هذا المقال عبر دهاليز هذا التساؤل، متتبعين خيوطه بين الذوق الفردي، وقيود المجتمعات، وانعكاسات الهوية، وسط محاولات الفرد في العثور على صورته في مرآة مكسورة من التوقعات.


ما هو الجمال؟ تأملات في المفهوم قبل المقياس


الجمال ليس مجرد توازن ملامح، ولا تدرج ألوان، ولا تناسق هندسي في الشكل، بل هو إحساس يُستثار حين نلتقي بشيء يبعث الدهشة، أو يُحرك فينا نغمة قديمة من الطمأنينة أو الإعجاب. إنه ارتعاشة خفية تحدث في العمق، قبل أن تصل إلى سطح الوعي.

لكن هذا الشعور، رغم عفويته الظاهرة، ليس دائمًا بريئًا. فهناك دائمًا ما يُوجّه نظرتنا، ويصوغ ما نعتبره "جميلاً"، حتى دون وعي منّا. وهنا تبدأ حكاية المعايير.


للتعمق أكثر إقرئي: ماهو الجمال الحقيقي


المعايير الجمالية: من يكتبها؟ ولمن؟


منذ الحضارات القديمة، كانت هناك محاولات لصياغة الجمال ضمن قوالب من النحت الإغريقي الذي خلد "النسبة الذهبية"، إلى لوحات عصر النهضة التي مجّدت البشرة البيضاء والأنف المستقيم. عبر القرون، وُضعت قواعد غير مكتوبة، لكنها نافذة، عن "المرأة الجميلة"، و"الرجل الجذاب".

وفي القرن الحادي والعشرين، لم تتغير المعادلة كثيرًا، بل ازدادت تعقيدًا. صارت المنصات الرقمية مصانع لإنتاج النمط الواحد، حيث تُقصى الاختلافات، وتُستهلك الوجوه المتشابهة حتى تُمحى الفردانية.

لكن... هل هذا يعني أن الجمال لم يعد مسألة ذوق؟


إقرئي أيضا:المرأة و الفلاتر


الذوق الشخصي: مساحة الحرية أم وهم الاستقلال؟


يحب البعض أن يرددوا أن "الجمال نسبي"، وكأن الذوق الشخصي يعيش في معزل عن المؤثرات. لكن حين نتأمل أعمق، ندرك أن "الذوق" لا يُولد في فراغ. إنه يتشكل منذ الطفولة، بتأثير الأهل، والثقافة، والقصص، والإعلانات، وحتى اللاشعور الجمعي.

حين تجد شخصًا ينبهر بعيون واسعة، أو بشفاه ممتلئة، فإن إعجابه ليس وليد اللحظة فقط، بل هو امتدادٌ لصورة سُقيت له مرارًا بطرق غير مباشرة، حتى صارت مرآته الداخلية تقيس بها كل شيء.

ومع ذلك، هناك هامشٌ للمُقاومة، لرفض ما يُفرض علينا، ولصناعة ذوقٍ أكثر وعياً. وهنا تبدأ معركة الفرد ضد "قالب الجمال".


الجمال والهوية: حين تُقاس الذات بمسطرة الآخر


المرأة التي تنظر في المرآة وتشعر بالنقص، ليست دائمًا ضحية خلل في تقدير الذات، بل كثيرًا ما تكون ضحية معايير مجحفة تُقارنها بما ليس حقيقيًا.

كم من فتاة دفنت فطريتها لأنها لا تُشبه "الإنفلونسر"، وكم من سيدة خسرت احترامها لذاتها لأنها لم تُطابق "مواصفات العروس المثالية"؟

الجمال هنا يتحول إلى قيد، إلى سجن شفاف نراه كل صباح حين نغسل وجوهنا، فنجد أنفسنا نُجلد بصمت، لأننا لا نشبه المطلوب.


هل يمكن أن نُعيد تعريف الجمال؟


نعم، لكن لن يكون الأمر سهلًا. فإعادة تعريف الجمال تستلزم خلع عدساتنا القديمة، وتفكيك ما توارثناه عن "المقبول" و"المرفوض". تستدعي منا أن ننظر إلى التجاعيد كقصص، لا كعيوب. أن نرى في لون البشرة المتعدد فسيفساء الحياة، لا درجات للتمييز.

أن نحتفي بالاختلاف، ونُقدّس الفطرة، ونُدرك أن الجمال ليس منتجًا، بل تجربة. ليس امتلاكًا، بل إحساسًا.


إقرئي أيضا:الجمال بين الرضى عن النفس و نظرة الآخرين


وسائل التواصل: المتهم رقم واحد؟


لن نُنكر أن وسائل التواصل ساهمت في نشر الوعي ببعض الجماليات غير النمطية، لكنها في الوقت نفسه صنعت مقصلة لا ترحم. بتقنيات التعديل، والفلاتر، والتقليد الأعمى، ضاعت الفروقات، وتحولت الملامح إلى قوالب مكررة.

باتت النساء يركضن خلف نفس الأنف، ونفس الذقن، ونفس الابتسامة. أما الذكور، فصورة "الرجل الفاتن" لا تقل ضغطًا: عضلات، لحية محددة، وطول معين. كأننا نعيش في إعلان طويل بلا توقف.


الجمال الثقافي: حين يتغير المعيار من مكان لآخر


ما يُعتبر جذّابًا في اليابان قد يبدو عادياً في إفريقيا، وما يُبهر العيون في المغرب قد لا يُثير انتباهاً في إسكندنافيا. 

الجمال يتلون بلون المكان، وذوق الناس، وتقاليدهم.

في بعض القبائل، تُعتبر السمنة رمزًا للخصوبة. في أخرى، يُعد طول الرقبة علامة جمال. هذه الاختلافات تُبرهن على أن الجمال لا يُمكن أن يُحصر في قالب واحد. بل هو نهر يتفرع، ويتعرج، ويأبى أن يُختزل.


نحو صحوة جمالية: كيف نُحرر أنفسنا؟


التحرر لا يعني رفض الجمال، بل تحريره من قفص المثالية المُعلبة. أن نُعلّم بناتنا أنهن جميلات لأنهن حقيقيات، لا لأنهن يُشبهْن صورًا في الشاشة. 

أن نُذكّر أنفسنا أن كل تجعيدة، كل أثر، كل اختلاف هو شهادة على أننا عشنا.

وأن "الجميلة" ليست مَن تُبهرك في صورة، بل من تترك فيك أثرًا، وتُشع نورًا من داخلها، مهما كانت ملامحها.


خاتمة: الجمال... بين الحقيقة والوهم


إذًا، هل الجمال مسألة ذوق أم معايير؟ ربما هو الاثنين معًا. لكنه أيضًا أكثر من ذلك. هو لحظة صدق مع النفس، هو أن نُحب ما نراه لأننا اخترنا أن نراه جميلاً، لا لأننا أُجبرنا على ذلك.

في النهاية، الجمال ليس شيئًا نُلاحقه خارجنا، بل هو عودة إلى الذات، إلى المصالحة مع ما نحن عليه، بلا رتوش ولا مقارنات. 

وعندما نصل إلى تلك النقطة، يصبح للجمال طعم آخر: طعم الحرية.



















إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!