![]() |
التميّز الجمالي بين الذكر والأنثى: تناغم مزدوج أم تضاد مرآوي؟ |
تحت جلد الحضارات، وفي أعماق الحواس، تترسّخ تصورات عن الجمال لا تخضع لقوانين الطبيعة وحدها، بل تتشكل عبر أزمنة تراكمت فيها الأساطير، والقيم، والرموز النفسية.
عندما نحدّق في الجمال كمرآة تعكس هوية الذكر والأنثى، لا نصطدم باختلاف في التكوين فقط، بل نصطدم برؤية تتقاطع فيها البصيرة بالفطرة.
حين يتكلم الجمال بلغتين
للرجل عينان تنسج التفاصيل بشكل مختلف عن المرأة. فحيث ترى الأنثى الجمال في الاتساق النفسي، قد يراه الرجل في المنحنى الحسي. لا يعني ذلك فوارق سطحية، بل اختلافًا جوهريًا في طريقة تفسير الإشارات الجمالية.
فالأنثى قد تلتقط الأناقة في نبرة الصوت، في طريقة إصغاء الرجل، وفي عمق سكوته؛ بينما الذكر قد يُسحر بتناسق الجسد أو إشراقة الوجه، كأنه يبحث عن مشهد يكتمل بالبصر لا بالحدس.
الموروث الثقافي: البوصلة الخفية للذوق
منذ عهد الحكايات المرسومة على جدران المعابد، وُضع إطار رمزي لما هو جميل وما هو غير ذلك. المرأة الجميلة في ثقافة البحر المتوسط كانت ممتلئة، خصبة، مفعمة بالأنوثة البصرية. بينما المرأة الجميلة في آسيا الشرقية قد تكون هادئة، باهتة اللون، ناعمة الملامح. هذه الرموز ليست ناتجة عن تفضيل فردي، بل عن تفاعل طويل بين الجغرافيا، والاقتصاد، والسياسة، والأساطير.
وبالمثل، الوسامة الذكورية في المجتمعات القديمة كانت ترتبط بالمكانة، بالقوة البدنية، بعمق الصوت والهيبة. لكن الوسامة اليوم قد تعني الجسد المنحوت، الابتسامة المدروسة، والستايل العصري. التغير لا يلغي الفطرة، بل يعيد تلوينها.
من يُحرّك مؤشر الجمال؟
الإعلانات، منصات التواصل، الأفلام، وصناعة الموضة كلها أدوات حديثة لنحت "صورة الجمال النموذجي"، وغالبًا ما تصب هذه الصورة في قالب واحد، يرفض التفرّد ويُمجّد التماثل. فجأة أصبحت جميع الوجوه تبدو مألوفة، كما لو أن الجمال صار "منتجًا بصريًا" يُعاد تدويره، لا "تجربة داخلية" تفيض بالاختلاف.
لكن، هل كل هذا حقيقي؟ أم أننا نُخدر يوميًا بصورة مشذبة بعناية تفرض على أرواحنا الذوق قبل أن نعيه؟
لغة الجاذبية: ما لا يُقال يُشعر
كم من رجل دخل القلب بصمته؟ وكم من امرأة بقيت في الذاكرة بسبب طريقة التفاتها، لا بسبب شكل عينيها؟ الجاذبية أعمق من هندسة الوجه أو خريطة الجسد. هي تفاعلات خفية، تهمس للحواس بما لا تستطيع الكاميرات التقاطه. الجمال الجوهري لا يُصطنع، بل يُولد تلقائيًا من التفاصيل التي لا تُكرر.
النمطية كقيد جمالي
التكرار يقتل السحر. حين تصبح جميع النساء نسخًا من "الوجه المثالي"، ويتحوّل الرجال إلى كائنات متناسخة في التسريحة، والعضلات، والنظرات، يفقد الجمال معناه كحالة شعورية. النمطية تقتل التميّز، وتحوّل الذوق من غريزة حرة إلى استجابة مبرمجة.
التفرد الجمالي: دعوة للاستيقاظ
ربما نحتاج إلى ثورة ذوقية. إلى رفض جماعي لمعايير تمليها شاشات لا تعرف أرواحنا.
الجمال ليس مسابقة، ولا مرآة عامة. هو مزاج فردي، ونبض داخلي، وميل شخصي قد يخالف ما يتفق عليه الجميع.
الجمال الحقيقي لا يصرخ، بل يهمس. لا يفرض نفسه، بل يُكتشف.
هل الجمال موحّد أم متموّج؟
الجمال ليس قالبًا هندسيًا ينطبق على الجنسين بالتساوي. هو طيف متعدد، يتحرك في كل اتجاه. قد تلتقي رؤى الذكر والأنثى عند نقطة، ثم تتباعد كخطّين في فضاء غير منتهٍ. وهذا التباين ليس خللاً، بل هو ما يمنح الجمال معناه. لو تطابق ذوق المرأة مع ذوق الرجل تمامًا، لفقد العالم إحدى أجمل تناقضاته.
الكلمة الأخيرة: الجمال كلغة لا تُترجم
في النهاية، الجمال ليس موضوعًا يُحلل ببرود، بل يُعاش بحواس مغمورة في الانبهار. هو نبض داخلي، واستجابة فطرية، وحنين إلى شيء لا نراه لكنه يشعرنا بالاكتمال. اختلاف الذوق بين الرجل والمرأة ليس صراعًا، بل عزف مزدوج، كل آلة فيه تصدر نغمة مختلفة، لكنها تخلق معًا سيمفونية لا تتكرر.
فلنترك الجمال يتحرر من قفص المعايير، ولنعِش تفاصيله كما نراها نحن، لا كما تُعرض علينا. فربما الجمال الأصدق هو ذاك الذي لا يُشبه أحدًا.