![]() |
لماذا يخاف البعض من المرأة الذكية؟ |
من بين أكثر الصور التي تثير الارتباك في الذهنية الجمعية، تبرز المرأة الذكية ككيان مركّب يجمع بين سحر الفكر وبريق الحضور. ليست ككل النساء، ولا ترضى أن تكون نسخة مكرورة من النماذج التقليدية التي يصوغها المجتمع الذكوري. فبينما يرى البعض أن الذكاء ميزة تتوج المرأة بهالة من الفخر، يتعامل آخرون مع هذا النور كأنه تهديد، كأن في تألق العقل أنثى لا يمكن احتواؤها.
الذكاء الأنثوي... حين يتحول إلى عدو خفي
المرأة الذكية تزعج النسق المألوف. لا تقبل الصمت حين يجب الكلام، ولا تنحني في وجه التفاهة. تفكّر، تحلّل، وتفكّك الخطاب المعلّب الذي يُفرض عليها باسم العادات. هي ليست "مزعجة" كما يصفها البعض، بل مرآة تعكس هشاشة التركيبة الذكورية التي تخشى المواجهة الفكرية.
يُقال إنها "صعبة المراس"، و"لا يمكن السيطرة عليها"، وهذه العبارات ما هي إلا ستائر دخان تخفي خوفًا دفينًا: الخوف من امرأة لا يمكن التلاعب بها، لا تُخدع بالمديح الزائف، ولا تذوب في كلمات منمّقة. ذكاؤها لا يقف عند حدود الشهادات، بل يتسلل إلى تفاصيل الحياة، يكشف الأقنعة، ويجعل من حولها في حالة تأهب دائم.
الجاذبية في الذكاء... سحر من نوع آخر
ليست الجاذبية محصورة في جمال الملامح أو تناسق القوام. ثمة سحر خفيّ ينبعث من العقول المتقدة، من تلك النساء اللواتي يحملن في أعينهن نظرات تفكك قبل أن تنطق. المرأة الذكية تعرف متى تصمت، ومتى تنطق بالكلمة التي تهز القناعات. حضورها يفرض نفسه دون ضجيج، ويترك أثرًا لا يُمحى.
هي لا تحتاج إلى تصنع ولا تصرخ لتُسمع. تكفي نظرة، أو عبارة مشبعة بالفكر، لتجعل من الجالس أمامها يعيد النظر في مفاهيمه. وهنا تكمن الجاذبية: في التأثير الذي لا يُرى، في الحضور الذي لا يُختزل، في قوة لا تحتاج إلى عضلات، بل إلى وعي متقد.
الخوف من السيطرة أم الخوف من المساواة؟
حين يُخشى من المرأة الذكية، هل الخوف نابع من سطوتها أم من إدراك أن الكفّة بدأت تميل نحو التوازن؟ في مجتمع يعتاد على التفوّق الذكوري، تصبح المساواة تهديدًا، والندية رجسًا يجب القضاء عليه. فالمرأة المفكرة تُربك من اعتاد أن يكون هو صاحب القرار، وتكسر أحادية الصوت.
الذكاء هنا لا يُرى كقيمة، بل كخطر. وهذا التحريف المتعمد للمعاني يُخفي جوهر الأزمة: لا أحد يرفض الذكاء، لكن حين يكون في جسد امرأة، يصبح مرفوضًا. لماذا؟ لأن الثقافة الذكورية لم تُربَّ على رؤية المرأة إلا خاضعة، تابعة، تؤدي أدوارًا محددة، لا تتجاوزها.
الذكاء كتحرر... لا كتمرد
حين تفكر المرأة بحرية، تُتّهم بالتمرّد. لكن الذكاء ليس تمرّدًا على القيم، بل تحرر من الأغلال التي كبّلتها طويلًا. هو أداة تفكيك للخطاب الذكوري الذي يربط الطاعة بالأخلاق، ويختزل الطموح في الزواج والإنجاب.
المرأة الذكية لا تحتقر الأنوثة، بل تعيد تعريفها. تفهم أن الجمال لا يعني الصمت، وأن الرقة لا تعني الضعف. تعرف كيف توازن بين العاطفة والعقل، وتدرك أن صوتها لا يقل أهمية عن صوت الرجل. وفي ذلك تكمن خطورتها على النظام القائم: إنها تطالب بإعادة توزيع الأدوار، لا قلبها فحسب.
ذكاؤها لا يُروّض... بل يُحتَرم
الرغبة في "ترويض" المرأة الذكية هي امتداد لعُقدة التفوق الذكوري، الذي يرى في المرأة المبدعة منافسة يجب إسكاتها. لكن الذكاء لا يُروّض، لا يُقصّ ولا يُجزّ. هو كالماء، يشق طريقه حتى من أضيق الفجوات.
المرأة الذكية تكتب مصيرها، لا تنتظر من يرسمه لها. تقرأ الواقع بعين ناقدة، وتعيد صياغته إن اقتضى الأمر. هي لا تقتنع بالشعارات، بل تبحث في المعاني العميقة. لا تسكن الظل، بل تخلق نورها.
نظرة المجتمع... بين الاحتقار والانبهار
في مفارقة محزنة، يخلط المجتمع بين الإعجاب والرهبة. ينظر إلى المرأة الذكية كأنها "متكبرة"، "جامدة"، أو "فوقية"، بينما في قرارة نفسه ينبهر بقدرتها على التحليل والاستيعاب. لكن الانبهار لا يُترجم دائمًا إلى احترام، بل قد يتحوّل إلى حرب صامتة تحاول كسرها، تقليل شأنها، أو دفعها للانعزال.
تُقصى من الحوارات، تُستبعد من الفرص، ويُنظر إلى صراحتها كأنها وقاحة، لا حق. هذا الرفض غير المعلن ما هو إلا دليل على قلق دفين: المرأة التي تفكر تهزّ الثوابت، وتُعيد ترتيب الأولويات.
الذكاء الأنثوي... ثورة ناعمة
ليست كل الثورات صاخبة. أحيانًا، يكفي سؤال واحد من امرأة ذكية ليقلب الطاولة. يكفي حضورها في اجتماع ذكوري لتنكشف هشاشة المحتوى. يكفي تعليقها العابر لفضح التناقضات. وهذا ما يجعل الذكاء الأنثوي أشبه بثورة ناعمة: لا تُراق فيها دماء، لكن تُكسر فيها جدران.
هذه الثورة لا تحمل رايات، بل تلبس فساتين، تحمل كتبًا، وتناقش بشغف. لا تهدف إلى سحق الرجل، بل إلى كشف عمقها. تسعى لمكانها الطبيعي، لا إلى فرض نفسها، بل إلى استعادتها. هي ثورة في التفاصيل، في اختيار الكلمة، في رفع الحاجب، في الصمت العارف.
تحديات المرأة الذكية... وحدها في ميدان مزدحم
الذكاء لا يعني الخلاص، بل قد يكون عبئًا حين تكون المرأة في مجتمع لا يحتمل أن تُفكّر. تُسأل عن "سبب تعقيدها"، تُلام على "اختياراتها المختلفة"، وتُتّهم بأنها "لن تجد من يقبل بها". كأن الوعي تهمة، وكأن التفكير نقمة.
ومع ذلك، لا تتراجع. تبني عالمها الخاص، تصنع من التناقضات وقودًا، وتشق طريقها حتى وإن تعثرت. لا تنتظر تصفيقًا، ولا تأبه بالتصنيفات. لأن الذكاء الحقيقي ليس في معرفة كل شيء، بل في فهم الذات، والإصرار على عدم التنازل.
نحو ثقافة تحتفي بالوعي
ليس المطلوب أن تتحول المرأة الذكية إلى استثناء، بل أن تصبح القاعدة. أن يُنظر إليها كقيمة مضافة، لا كعائق. أن تُفتح لها الأبواب، لا أن تُغلق. أن يُحتفى بها لا أن تُحاصر.
مجتمع يقدّر المرأة الذكية هو مجتمع اختار أن يرتقي، أن ينفتح على أفق أوسع. لأن الجمال حين يُقترن بالذكاء، لا يُمكن إلا أن يكون تحفة إنسانية تستحق الاحترام لا الخوف.
المرأة الذكية ليست تهديدًا... بل فرصة. وليست لعنة، بل نعمة. في وعيها يكمن مستقبل أكثر عدالة، وفي حضورها تتكسر قوالب الجهل. فلنمنحها المساحة، لا القيود. ولنحتفِ بعقلها، لا نخافه.